سورة النور - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} في {من} قولان:
أحدهما: أنها صلة.
والثاني: أنها أصل، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما لا يحلُّ.
وفي قوله: {ويحفظوا فروجهم} قولان:
أحدهما: عما لا يحل لهم، قاله الجمهور.
والثاني: عن أن تُرى، فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية وابن زيد.
قوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الغض وحفظ الفروج {أزكى لهم} أي: خير وأفضل {إن الله خبير بما يصنعون} في الأبصار والفروج ثم امر النساء بما امر به الرجال.
قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} أي: لا يظهرنها لغير مَحْرَم. وزينتهن على ضربين، خفية كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهرةٌ وهي المشار إليها بقوله: {إلا ما ظهر منها} وفيه سبعة أقوال.
أحدهما: انها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر قال هو الرداء.
والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.
والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: القُلْبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة.
والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد.
والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن.
والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى: والقول الاول أشبه، وقد نص عليه احمد، فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فان كان لعذر مثل ان يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فانه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها بغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن.
فان قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها.
فالجواب: أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه.
قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن} وهي جمع خِمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، والمعنى: وليُلْقِين مَقانِعَهن {على جيوبهن} ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش: {على جِيوبهن} بكسر الجيم، {ولا يبدين زينتهن} يعني: الخفية وقد سبق بيانها {إلا لبعولتهن} قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن.
قوله تعالى: {أو نسائهن} يعني: المسلمات. قال أحمد: لا يحل للمسلمة ان تكشف راسها عند نساء أهل الذمة، واليهودية والنصرانية لا تقبِّلان المسلمة.
قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} قال اصحابنا: المراد به: الإماء دون العبيد. وقال أصحاب الشافعي: يدخل فيه العبيد، فيجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها، لأن مذهب الشافعي أنه مَحْرم لها، وعندنا انه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفيها، وقد نص أحمد على انه لايجوز أن ينظر إلى شعر مولاته.
قال القاضي أبو يعلى: وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء، لأن الذين تقدم ذكرهم احرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قوله تعالى: {أو التابعين} وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، او لأنهم نشؤوا فيهم.
وللمفسرين في هذا التابع ستة اقوال:
أحدهما: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء.
والثاني: أنه العنين، قاله عكرمة.
والثالث: المخنث كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن، قاله الحسن.
والرابع: أنه الشيخ الفاني.
والخامس: أنه الخادم، قالهما ابن السائب.
والسادس: أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من أصحابنا. قال الزجاج: {غير} صفة للتابعين. وفيه دليل على ان قوله: {أو ما ملكت أيمانهن} معناه: {غير أولي الإربة من الرجال} والمعنى: ولا يبدين زينتهن لمماليكهن ولا لتُبَّاعِهن إلا أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة: الحاجة ومعناه: غير ذوي الحاجات إلى النساء.
قوله تعالى: {أو الطِّفْل} قال ابن قتيبة: يريد ألأطفال، بدليل قوله: {لم يظهروا على عورات النساء} أي: لم يعرفوها.
قوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن} أي: باحدى الرجلين على الأخرى، ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أن عليها خلخالين.


قوله تعالى: {وأَنْكِحُوا الأيامى} وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيِّم وامرأة أيِّم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بِكر وامرأة بِكر: إِذا لم يتزوجا، وامرأة ثيِّب ورجل ثيِّب: إِذا كانا قد تزوجا، {والصالِحين من عبادكم} أي: من عبيدكم، يقال: عَبْد وعِبَاد وعَبِيد، كما يقال: كَلْب وكِلاَب وكَلِيب. وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ: {من عَبيدكم}. قال المفسرون: والمراد بالآية الندب. ومعنى الصلاح هاهنا: الإِيمان. والمراد بالعباد: المملوكون، فالمعنى: زوِّجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم. ثم رجع إِلى الأحرار فقال: {إِن يكونوا فقراء يُغْنِهِمُ الله من فضله} فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر.
قوله تعالى: {وليَسْتَعْفِف الذين لا يجدون نكاحاً} أي: وليْطلب العِفَّة عن الزنا والحرام مَن لايجد ماينكح به من صداق ونفقة. وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يامعشر الشباب عليكم بالباءة، فمن لم يجد فعليه بالصيام فانه له وجاء». قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} أي: يطلبون المكاتبة من العبيد والإِماء على أنفسهم، {فكاتبوهم} فيه قولان:
أحدهما: أنه مندوب إِليه، قاله الجمهور.
والثاني: أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار. وذكر المفسرون: أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزَّى يقال له: صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً.
قوله تعالى: {إِن علمتم فيهم خيراً} فيه ستة أقوال.
أحدها: إِن علمتم لهم مالاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، والضحاك.
والثاني: إِن علمتم لهم حيلة، يعني: الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: إِن علمتم فيهم ديناً، قاله الحسن.
والرابع: إِن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: إِن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني.
والسادس: إِن علمتم لهم صدقاً ووفاءً، قاله إِبراهيم.
قوله تعالى: {وآتُوهم من مال الله الذي آتاكم} فيه قولان:
أحدهما: أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا ان يعطوا المكاتبين من سهم الرِّقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يُعطى منه المكاتَبون.
والثاني: أنه خطاب للسادة، أُمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً. قال أحمد والشافعي: الإِيتاء واجب، وقدَّره أحمد بربع مال الكتابة. وقال الشافعي: ليس بمقدَّر. وقال أبو حنيفة ومالك: لايجب الإِيتاء. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلاماً له يقال له: أبو أُمية، فجاءه بنجمه حين حلَّ؛ فقال: اذهب يا أبا أُمية فاستعن به في مكاتَبتك، قال: ياأمير المؤمنين لو أخَّرْتَه حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أُمية: إِني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أُدِّي في الإِسلام.
قوله تعالى: {ولا تُكْرِهوا فتياتكم على البِغاء} روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سفيان عن جابر، قال: كان عبد الله بن أٌبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: وكان له جاريتان، مُعاذة ومُسَيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إِماءهم، فلما جاء الإِسلام قالت معاذة لمسيكة: إِن هذا الأمر الذي نحن فيه إِن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإِن كان شرّاً فقد آن لنا أن نَدَعه، فنزلت هذه الآية. وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوارٍ كُنَّ لعبد الله بن أُبيّ، مُعاذة، ومُسَيكة، وأُميمة، وقُتيلة، وعمرة، وأروى. فأما الفتيات، فهن الإِماء. والبِغاء: الزنا. والتحصن: التعفف.
واختلفوا في معنى {إِن أَرَدْنَ تحصُّناً} على أربعة أقوال.
أحدها: أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإِن لم يكن شرطاً فيه.
والثاني: إِنه إِنما شرط إِرادة التحصُّن، لأن الإِكراه لا يُتَصور إِلا عند إِرادة التحصُّن، فأما إِذا لم ترد المرأة التحصُّن، فانها تبغي بالطبع.
والثالث: أن {إِنْ} بمعنى إِذ، ومثله: {وذروا ما بقي من الربا إِن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278] {وأنتم الأعلون إِن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].
والرابع: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: {وأنكحوا الأيامى} إِلى قوله: {وإِمائكم} {إِن أردن تحصناً} ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} وهو كسبهن وبيع أولادهن {ومن يُكْرِهْهُنَّ فَان الله من بعد إِكراههن غفور} للمُكْرَهات {رحيم} وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: {من بعد إِكراههن لهن غفور رحيم}.
قوله تعالى: {آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ} قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان: {مبيِّنات} بكسر الياء في الموضعين في هذه السورة [النور: 34، 46]، وآخر سورة [الطلاق: 11].
قوله تعالى: {ومَثَلاً من الذين خَلَوا} أي: شَبَهاً من حالهم بحالكم أيها المكذِّبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذِّبين قبلهم.


قوله تعالى: {اللّهُ نُور السموات والأرض} فيه قولان:
أحدهما: هادي أهل السموات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أنس بن مالك، وبيان هذا أن النُّور في اللغة: الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مُبْصَراتها، فورد النُّور مضافاً إِلى الله تعالى، لأنه هو الذي يَهْدي المؤمنين ويبيِّن لهم ما يهتدون به، والخلائق بنوره يهتدون.
والثاني: مدبِّر السموات والأرض، قاله مجاهد، والزجاج. وقرأ أُبيّ ابن كعب، وأبو المتوكل، وابن السميفع: {اللّهُ نَوَّرَ} بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء {السمواتِ} بالخفض {والأرضَ} بالنصب.
قوله تعالى: {مَثَل نُوره} في هاء الكناية أربعة أقوال.
أحدها: أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال ابن عباس: مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن.
والثاني: أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره: مَثَل نُور المؤمن، قاله أُبيّ ابن كعب. وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن: {مثل نُور مَنْ آمن به}.
والثالث: أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، قاله كعب.
والرابع: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان.
فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب، والمصباح: الضوء، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها القنديل، والمصباح: الفتيلة، قاله مجاهد.
والثالث: أنها الكوّة التي لا منفذ لها، والمصباح: السراج، قاله كعب، وكذلك قال الفراء: المشكاة: الكوّة التي ليست بنافذة. وقال ابن قتيبة: المشكاة: الكوّة بلسان الحبشة. وقال الزجاج: هي من كلام العرب، والمصباح: السراج وإِنما ذكر الزُّجاجة، لأن النُّور في الزُّجاج أشد ضوءاً منه في غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة: {في زَجاجة الزَّجاجة} بفتح الزاي فيهما. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن يعمر: بكسر الزاي فيهما، قال بعض أهل المعاني: معنى الآية: كمَثَل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب.
فأما الدُّرِّيّ، فقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبان عن عاصم {دِرِّيءٌ} بكسر الدال وتخفيف الياء ممدوداً مهموزاً. قال ابن قتيبة: المعنى على هذا: إِنه من الكواكب الدَّراريء، وهي اللاتي يَدْرأنْ عليك، أي: يطلُعن. وقال الزجاج: هو مأخوذ من درأ يدرأ: إِذا اندفع منقضّاً، فتضاعف نوره، يقال: تدارأ الرجلان: إِذا تدافعا. وروى المفضَّل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مدٍّ، وهي قراءة عبد الله بن عمر، والزهري. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {دُرِّيٌّ} بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مدٍّ ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس، وعاصم، الجحدري: {دَرِيءُ} بفتح الدال وكسر الراء ممدوداً مهموزاً، وقرأ أُبيّ ابن كعب، وسعيد بن المسيب، وقتادة: بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مدٍّ ولا همز. وقرأ ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر: بفتح الدال وكسر الراء مهموزاً مقصوراً.
قال الزجاج: الدُّرِّيّ: منسوب إِلى أنه كالدُّرّ في صفائه وحسنه. وقال الكسائي: الدُّرِّيءُ: الذي يشبه الدُّرّ، والدِّرِّيءُ: جارٍ، والدَّرِّيءُ: يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، والوليد بن عتبة عن ابن عامر: بضم الدال وتخفيف الياء مع إِثبات الهمزة والمدِّ. قال الزجاج: فالنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا؛ وقال الفراء: ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس في الكلام فُعِّيل إِلا أعجمي، مثل مُرِّيق، وما أشبهه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: المُرّيق: العُصْفُر، أعجمي معرَّب، وليس في كلامهم اسم على زِنة فُعِّيْل. قال أبو علي: وقد حكى سيبويه عن أبي الخطّاب: كوكب دُرِّيء: من الصفات، ومن الأسماء: المُرِّيق: العُصْفر.
قوله تعالى: {تَوَقَّدَ} قرأ ابن كثير. وأبو عمرو: بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدَّال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {يُوقَدُ} بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضاً. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {تُوقَد} بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج: والمقصود: مصباح الزجاجة، فحذف المضاف.
قوله تعالى: {من شجرة} أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلُّك على ذلك قوله: {يكاد زيتها يضيء}؛ والمراد بالشجرة هاهنا: شجرة الزيتون، وبَرَكَتُها من وجوه، فانها تجمع الأُدْم والدُهن والوقود، فيوقد بحطب الزيتون، ويُغسَل برمادة الإِبريسم، ويُستخرج دُهنه أسهل استخراج، ويورِق غصنه من أوله إِلى آخره. وإِنما خُصَّت بالذِّكْر هاهنا دون غيرها، لأن دُهنها أصفى وأضوأ.
قوله تعالى: {لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أُبيّ ابن كعب، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنها في الصحراء لا يُظِلُّها جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، فهو أجود لزيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج.
والثالث: أنها من شجر الجنة، لا من شجرة الدُّنيا، قاله الحسن.
قوله تعالى: {يكاد زيتها يُضيء} أي: يكاد من صفائه يُضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به. {نُور على نُور} قال مجاهد: النار على الزيت. وقال ابن السائب: المصباح نور، والزجاجة نور. وقال أبو سليمان الدمشقي: نور النار، ونور الزيت، ونور الزجاجة، {يهدي الله لنوره} فيه أربعة أقوال.
أحدها: لنور القرآن.
والثاني: لنور الإِيمان.
والثالث: لنور محمد صلى الله عليه وسلم.
والرابع: لدينه الإِسلام.
فصل:
فأما وجه هذا المَثَل، ففيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه شبَّه نور محمد صلى الله عليه وسلم بالمصباح النيِّر؛ فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصباح النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إِبراهيم عليه السلام، سماه شجرة مباركة، لأن أكثر الأنبياء من صُلْبه.
{لا شرقية ولا غربية} لايهودي ولا نصراني، يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتبيَّن للناس أنه نبيٌّ ولو لم يتكلَّم. وقال القرظي: المشكاة: إِبراهيم، والزجاجة: إِسماعيل، والمصباح: محمد، صلى الله عليه وعليهم وسلَّم. وقال الضحاك: شبّه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزجاجة، ومحمداً صلى الله عليه وسلم بالمصباح.
والثاني: أنه شبّه نور الإِيمان في قلب المؤمن بالمصباح، فالمشكاة: قلبه، والمصباح: نور الإِيمان فيه. وقيل: المشكاة: صدره، والمصباح: القرآن والإِيمان اللَّذان في صدره، والزجاجة: قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإِيمان كوكب مضيء تَوَقَّد من شجرة، وهي الإِخلاص، فمثل الإِخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن، فان أُعطي شكر، وإِن ابتُلي صبر، وإِن قال صدق، وإِن حكم عدل، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فاذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسَّه النار، فاذا مسَّته اشتد نُوره، فالمؤمن كلامه نُور، وعمله نُور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلى نور يوم القيامة.
والثالث: أنه شبّه القرآن بالمصباح يُستضَاء به ولا ينقص، والزجاجة: قلب المؤمن، والمشكاة: لسانه وفمه، والشجرة المباركة: شجرة الوحي، تكاد حُجج القرآن تتضح وإِن لم تُقرأ. وقيل: تكادُ حجج الله تضيء لمن فكَّر فيها وتدبَّرها ولو لم ينزل القرآن، {نُور على نُور} أي: القرآن نُور من الله لخلقه مع ماقد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن.
قوله تعالى: {ويَضْرِبُ اللّهُ الأمثال} أي: ويبيِّن الله الأشباه للناس تقريباً إِلى الأفهام وتسهيلاً لسبل الإِدراك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8